أحدث الأخبار
الجمعة 02 مايو 2025
رئيس التحرير
محمد أبو عوض
رئيس التحرير التنفيذى
أحمد حسني

هل حرية التعبير حق إنساني أم تحد ثقافي؟.. مرصد الأزهر يجيب

مرصد الأزهر
مرصد الأزهر

تفرض "حرية التعبير" نفسها بوصفها موضوعًا معقدًا؛ إلا أن طرحه يُعد حاجة ملحة كحقٍّ أصيلٍ من حقوق الإنسان، لكن تطبيقه يُعد تحديًا ثقافيًّا؛ إذ يختلف وفقًا للسياقات الثقافية إلى درجة أنه قد يتعارض مع تقاليد ثقافة بعينها، ومن المهم البحث عن توازن ما بين تلك الحرية واحترام الثقافات المختلفة، ولبحث هذا الموضوع وتداعياته ووضع حلول، علينا أن نبحث عن تعريف له، حيث أن أثره يختلف باختلاف متلقيه؛ فبينما يحمل هذا المفهوم بالنسبة لأحدنا وقعًا إيجابيًّا تطيب له نفسه، فإنه في الوقت ذاته قد يمثل خرقًا للعادات والقيم بالنسبة لشخص آخر له ثقافة مختلفة، بل قد يتعدى ذلك ليضر بالغير في ما يوصف بـ "خطاب الكراهية"، أو يكون مرادفًا ل "العَلمانية" عند البعض الآخر، فيما يعتبره آخرون مرادفًا لـ "الليبرالية".  

حرية التعبير في بيئةٍ متعددةِ الثقافات: جسر نحو الاستدامة والتعايش

 

 

 حرية التعبير: أبعادها في المجتمعات متعددة الثقافات وبالنظر في السياقات الثقافية المختلفة يتضح لنا مفهوم حرية التعبير، فمن الأمثلة التي تدل على الانفلات في مفهوم الحرية، ما شهدته المملكة المتحدة عندما نُشرت رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي عام ١٩٨٨م، وقد مُنعت في الهند بعد نشرها مباشرة في المملكة المتحدة، واعتبر المسلمون تلك الرواية مسيئة للإسلام ولنبيه (ﷺ)، حتى إنهم حرقوها في برادفورد، وتعرض المترجم الياباني للرواية لمحاولة قتل، وهو ما لا تحمد عقباه ولا نقول به ولا نؤيده. 

ورغم ذلك ظل الكتاب يُطبع ويباع دون قيود في المملكة المتحدة البريطانية.   وقد زادت المسوغات الواهية للمتبنين لخطاب الكراهية، ما جعل التصدي له واجبًا على الدول يحكمه إطار حقوقي نظرًا لتداعياته السلبية. 

وفي هذا السياق يُعرِّف الأمين العام ل لأمم المتحدة"أنطونيو جوتيريش" المحظور من خطاب الكراهية بقوله: "إن التصدي لخطاب الكراهية لا يعني تقييد حرية التعبير أو حظرها، بل يعني منع تصعيد خطاب الكراهية بحيث يتحول إلى ما هو أشد خطورة، وخاصةً إذا بلغ مستوى التحريض على التمييز، والعدوانية، والعنف باسم الدين."، وهو أمر يحظره الإسلام في الأساس.  

 وفي السياق ذاته اعتبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب -عندما أعادت جريدة فرنسية نشر صور مسيئة في2020- أن" الإساءة للنبي محمد (ﷺ) ليست حرية رأي  وتعبير، بل دعوة صريحة للكراهية والعنف؛ مؤكدًا أن ما نشرته الصحيفة الفرنسية -شارلي إبدو- يُعد انفلاتًا من كل القيم الإنسانية والحضارية". 

وفي ذلك إشارة ضمنية لرفض الإساءة للأنبياء جميعهم. وضمن آخر المشاهد التي رفضها الأزهر الشريف كانت تلك التي تَصَدَّرتْ افتتاح دورة الألعاب الأولمبيَّة بباريس نهاية يوليو 2024، والتي أثارت غضبًا عالميًّا واسعًا، وهي تُصَوِّرُ السَّيِّدَ المسيح عليه السَّلام في صورة مُسيئة لشخصِه الكريم، ولمقام النُّبوَّةِ الرَّفيع، وبأسلوبٍ همجيٍّ طائشٍ، لا يحترم مشاعرَ المؤمنينَ بالأديان، وبالأخلاق والقِيَمِ الإنسانيَّة الرفيعة.  

 الإسلام في وضع المتهم، وهو في الحقيقة  رافد لحوار الثقافات ونتيجة لجهل البعض بالديانة الإسلامية وما تدعو إليه من تسامح، واحترام للمعتقدات المختلفة فقد ينجرفون وراء أصوات زاعقة بالعداء للإسلام، وفي المجتمعات الغربية على وجه الخصوص أنتج مفهوم "الإسلاموفوبيا" وهو المفهوم الذي يمثل انتهاكـًا لحرية التعبير فصياغته نفسها وإلصاق الخوف غير المسبب بالإسلام يُعد من انتهاكات "حرية التعبير".   

يأتي هذا في الوقت الذي تُشكل فيه المجتمعات الغربية على وجه الخصوص ونتيجة للهجرات بيئة متعددة الثقافات. يعاني المسلمون في تلك المجتمعات أشكالَ التمييز المختلفة تحت مسمى "الإسلاموفوبيا"، ما دفعهم إلى محاولة صد تلك الهجمات. 

لحل تداعيات ذلك العداء. وفي الوقت الذي بدأ المسلمون فيه يبحثون لأنفسهم في الولايات المتحدة –على سبيل المثال- عن موطئ قدم بوصفهم مواطنين لهم حقوق وامتيازات في هذا الحراك الثقافي الذي يمكن وصفه بأنه "متجاهل للمسلمين"، يُعاد اختراع الإرهاب بما يعني إعادة إنتاج مفهوم "الإسلاموفوبيا"؛ وهو المفهوم الذي يشير إلى الخوف غير الشعوري غير المسبب وما يترتب عليه من الرفض العشوائي للإسلام.  

 وقد  زاد استخدام هذا المفهوم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، ويُعاد استخدامه في هذه الآونة بعد حرب غزة بما يشير إلى "معاداة اليهود" تحت مسمى "اللاسامية"؛ ليسبب قلاقل واضطرابات في حياة المسلمين في الغرب، ويوفر بيئة خانقة و"غير داعمة" حتى لمجرد التعبير عن آرائهم، حتى في دعم الفلسطينيين الذين عانوا وحرموا من أن يكونوا مواطنين لهم وطن، وهو حقهم الأصيل كبني الإنسان خصوصًا أن المدافعين عنهم ليسوا من المسلمين فحسب، بل كذلك من أناس شاركوهم إنسانيتهم، ونافحوا عنها.  

 وللوقوف على هذه الإشكالية، وهي إشكالية التحدي الثقافي لمفهوم "حرية التعبير" علينا أن نضع أمام أعيننا تعريفًا للحرية، فتعريفها العام أنها "عدم الخضوع لسلطة أعلى، أو عدم القدرة على القيام بعمل ما أو الامتناع عن عمل". وتشمل الحرية القدرة على التقرير الذاتي، وتفترض تدخل السلطات العامة في الدولة لتنظيمها. وتتنوع أمثلة حرية التعبير بين حرية الإعلام، وحرية الإبداع، والتعبير الفني، والحرية الأكاديمية، والحقوق الرقمية، إضافة إلى الحق في التظاهر والتجمع السلمي. 

  وحرية التعبير تُعد قسمًا من الحرية، ولا يقتصر مفهومها على حرية الكلام المنطوق، وإنما يشمل نطاقًا واسعًا من أشكال التعبير بما في ذلك الكلمات المكتوبة، والمسرحيات، والأفلام، ومقاطع الفيديو المرئية، والبودكاست، والمدونات، والمقاطع المسموعة، وغيرها بما يشمل الصور والرسوم الكاريكاتورية، واللوحات، والمقالات، والبرامج التليفزيونية، والخطب، وهذا كله يقتضي حرية الفكر الذي قد يعبر عنه ببعض الرموز التي لا تقتضي كلامًا، وهذا كله في إطار المجتمع. 

  توازن حذر بين الحق في حرية التعبير والتحديات الثقافية؛ الإسلام نموذجًا ولا يخفى على أحد أن حرية التعبير ضمن الإطار القانوني، وبما لا يخالف الأعراف يسهم في مكافحة الفساد والفقر، ويسمح لأفراد المجتمع بالمشاركة في بناء الديموقراطية وترسيخها.

 وتعد حرية التعبير الخطوة الأولى لجمع بيانات عن حاجات المجتمعات، وتشكيل شخصية المواطن وفق الاستقلالية المنضبطة، إلى جانب التحلي بالمرونة والانفتاح تجاه آراء الآخرين. أما سبل تحقيق ذلك فمنها التعليم، والتثقيف الإعلامي، وضبط تشريعات تحمي حرية التعبير، وتضمن في الوقت ذاته حقوق الغير من خلال الحوارات المجتمعية المفتوحة، وحماية الأصوات الضعيفة إلا أن الأمر يتطلب توازنًا حذرًا في التطبيق يجابه التحديات الثقافية المختلفة.  

 ويعد الإسلام نموذجًا في ذلك خصوصًا في مجتمع ما بعد الهجرة الذي مثَل بيئة متعددة الثقافات لا سيما بعد أن وفدت الوفود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العربية، وغيرها. ومن أوجه حرية التعبير المقررة في الإسلام "مبدأ الشورى" في اتخاذ القرار كما قال تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" (آل عمران: ١٥٩)، وقوله تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى: ٣٨)؛ فالحرية حق للإنسان، ولكنها مثل كل الحقوق، لها ضوابطها وقيودها ولا حرية في الإسلام لنشر ما يعتبر فسادًا أو فتنة تضر بالفرد أو بالمجتمع، فتلك الحرية مقيدة بكف الأذى ودفع الضرر عن الغير. وهي كلمة الحق التي لها ما يكفلها في الإسلام؛ لأنها تعبر عن شخصية المسلم أو المواطن في الدولة التي يعيش فيها فيدافع عن حقوقه دون ضرر أو ضرار.

 وقد ظهر احترام الإسلام لعقيدة الآخر جليًّا في قوله تعالى في سورة الكافرون: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ () لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ () وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ () وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ () وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ () لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ()). والتاريخ شاهد على مر العصور أن المسلمين لم يهدموا كنيسة أو محرابًا، وأُخذ منه ما كتب بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. 

  إن الحرية طبيعة بشرية، تصقلها عوامل التجربة والرقي. وقد كفل ديننا الحنيف تلك الحرية في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: ٢٥٦)، وهذا معناه أنه من حقوق الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى "حرية الدين"؛ فالإنسان يمارس شعائره الدينية في جو من الحرية. 

ولعل في سبب نزول الآية الكريمة ما يستحق الذكر، فعن سيدنا عبد الله بن عباس (حبر الأمة وترجمان القرآن الكريم) من طريق ابن إسحاق بسنده في قوله: "لا إكراه في الدين"، أنه قال: "نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له: الحصينُ. كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبي (ﷺ): ألا أسْتَكرِهُهما؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه الآية الشريفة تتلى إلى يوم القيامة. [موسوعة التفسير المأثور: ٤/٤٧٦].   أما على اعتبار أن العلمانية مرادف لـ "حرية التعبير" عند البعض؛ فبالنسبة لبعض الناس هي مرادف للحرمان من حرية الدين. 

وتحدث هذه التخوفات رغم وجود بعض التشريعات؛ من بينها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تقرر المادة ١٩، ونظم هذا الحق أيضًا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ ولذا كان على المجتمعات خلق بيئة تسمح بالموازنة بين حرية الفرد وحق المجتمع. ويعتبر خطاب الكراهية من أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات خاصة الأقليات منها إذ إنه معوق للتنمية، ولم يكن خطاب الكراهية - خاصة المؤدي منه إلى ازدراء الأديان - وليد الثورة التكنولوجية، بل هو ضارب في جذور التاريخ. وقد تعرض له أفضل الخلق، فكان الرسول (ﷺ) والمسلمون يتعرضون للإساءة في حياتهم، وأُلصِقت بهم تهمٌ هم منها براء؛ إلا أن خطاب الكراهية قد اتخذ الآن عدة أشكال منها الرسم، والأفلام، والروايات، والتصريحات الإعلامية وغيرها من الوسائل المسيئة للدين الإسلامي. 

تلك الوسائل كلها ما هي إلا انتهاك لمعايير حرية التعبير تحت حجج واهية، منها حجة "المنحدر الزلق" التي تعني أن تقييد الحرية في التعبير يزج بالمجتمعات في نظام استبدادي، أو شبيه بالاستبدادي. والواقع أن هذا الانحدار له درجات والمسألة ذاتية قد يحكم كل أحد عليها من منظوره ووفق العوامل المحيطة الأمر الذي يتطلب معايير موضوعية تأخذ في الاعتبار حفظ الحريات. 

  يتضح من العرض السابق أن مفهوم الحرية له آثاره المجتمعية، ولكن يمكن وضعه داخل إطار قيمي يحمل طابعًا إنسانيًّا وبعدًا عالميًّا، ويطرح المقال مبدأ "لا ضرر، ولا ضرار" بوصفه مبدأ إسلاميًّا يوازن بين حرية الفرد وحق الآخر؛ فإذا كان المسلم -وفق التعريف المقرر في الحديث الشريف- هو من سلم الناس من لسانه ويده؛ فإن عليه "واجب" مسالمة كل الناس دون تمييز، وكذلك للمسلم "حق" العيش في المجتمع دون أن يتعرض له أحد بأذى يسلبه هذا الحق، فلا شك أن التعرض للمسلم وإلحاق الأذى به يحرم المجتمع من مساهمته الفاعلة وأداء دوره في عمارة الأرض.  

 وفي السياق المتعدد الثقافات الموجود حاليًا في كل مكان بسبب الثورة التكنولوجية، والهجرة، ورغم أن التنوع الثقافي في المجتمعات المعاصرة مدعاة للابتكار وتأهيل الفرد للتعامل مع التحديات الجديدة وتعزيز القدرة على الاندماج؛ فإنه في الوقت ذاته يمثل بيئة خصبة للخلاف؛ إذ أصبحت البيئات المستقبلة للمهاجرين أكثر تنوعًا من أي وقت مضى، الأمر الذي يجعلنا نطرح أسئلة حول استحداث أسلوب جديد للتعامل مع هذا الاختلاف بطرق مرنة. 

وبناءً عليه، نطرح معيارًا إسلاميًّا ليس بجديد، بل أصيل، هو مبدأ "لا ضرر ولا ضرار". كما نقترح ضرورة الاتجاه نحو التعليم المتجاوب ثقافيًّا، والمستند على تعاليم الإسلام في نبذ العنف، مع الأخذ في الاعتبار الأنماط الحديثة للتعليم الكفيلة بحفز الذكاء الثقافي لدى المتعلمين، وتزويدهم بمهارات تذكي التعاون وتدرأ التنافر، وتحقق التوازن في حرية التعبير.

 ونجد أن مجتمع المدينة المنورة في بداية الإسلام كان خير مثال لتلك البيئة الحاضنة للثقافات المتعددة المتعاونة الصحية، والتي ضمت المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم ما لبث أن وفد إلى مدينة الرسول (ﷺ) وفود من بلاد وثقافات شتى، فكانوا يتبادلون الرؤى مع المجتمع الوليد وقائده الذي ضرب المثل عندما أخذ برأي سيدنا سلمان الفارسي في حفر الخندق. وتلك هي البيئة الخصبة التي تفسح المجال للاندماج وتوحيد الرؤى؛ من أجل عمارة الأرض بما ينفع الناس، بل واستدامة ونمو تلك العمارة.

 

تابع أحدث الأخبار عبر google news